كعادتي أحبُّ أنْ أضغطَ على زِرِّ التحكم لأرى في لمحاتٍ خاطفةٍ ما يُقَدَّمُ على شاشات التلفاز، حتى استوقفني أحد البرامج التافهة؛ حيث كان هناك بعضُ الشباب الذين يتراقصون أمام الشاشة فيما يطلقون عليه (المهرجان) .. وهو بالفعل كذلك لكنه مهرجان من الضوضاء.
المهم أني انتظرت حتى أرى ردَّ فِعْلٍ مذيعةِ البرنامج التي تقوم باستضافتهم، وإذا بها تـصـعـقـني بكلماتها التي لا يقتنع بها قلبها وفكرها. أخذت تمدح في طريقتهم وأسلوبهم قائلة: "إنَّ كلَّ صـفــحــاتِ التواصلِ الاجتماعي تشيد بكم؛ وقد سُحِرَ الناسُ بأسلوبكم الجميل"، الغريب أنَّني لم أنتبه حتى لمعرفة أسماء هؤلاء، لغرابةِ الأسماء التي يطلقونها على أنفسهم.
هل أصبح هذا حالنا؟! لا نبحث عن موهبة، وإنما نبحث عمَّن استطاعَ أنْ يحققَ أيَّـةَ شـهـرة مهـما كانت رخيصة، وكأنَّنا نُوَثِّقُ هذه الشهرة، وهذا الانحدار الذين يقومون به! هل أصبحَ الفنُّ رخيصًا أم أنَّ الأذواقَ هي التي انحدرت إلى أدنى ما كنا نتخيل؟!
آهٍ لو رأيتم معي كيف كان هؤلاء الشباب يتحدثون بثقةٍ عن هذا الهراء بمـنـتـهـى الــفـخــر وكأنَّهم يقدمون للمجتمع خدمة جليلة، وهي تخاطبهم على أنهم أصحاب رسالة سامية.. وعلى حد قولها أن هذه الألوان الهابطة قد نجد بها بعضا من الكلمات الرائعة، والتي تريد توصيل رسالة معينة!!
أي تخريف هذا! لا أعلم! فكيف نطلق على شيء فنيٍّ أنه كذلك إلا عندما تجتمع فيه مقـايـيـس الفن والجمال؛ فالشيء الفني هو الذي يصدر بإبداع كبير، وفي إطار فني معروف. فكيف يتعارض الإبداع مع الإطار الذي يقدم فيه؟! كيف أقول إنه إبداع وهو لا يُحْدِثُ بنفوسنا سوى الضوضاء والصخب الغير مقبول.
قال أحد هؤلاء الشباب بكل فخر: "لا أحب من ينتقد ما نقدمه إلا بما يضـعـه من بديـل". يـريـد مِنْ النقادِ أنْ يضعوا له بدائل لما يقدمه من سخافاتٍ، عزيزي الشاب تأكَّد قبل أنْ تقدمَ لنا ما تظنُّه فنًّا أنَّهُ فنٌّ بالفعل، ولو أنَّ هؤلاء امتلكوا أسباب هذا الفن وعاشوا لمساتِهِ الإبداعيةَ بحقٍّ ما فـكـروا أنْ يحيدوا عنه أبدا.
فالفنان الحقيقي لا يقبل بأي حالٍ من الأحوال أنْ يتنازلَ، ويـنـحــدر بـذوقـه تـماما ويقدم للناس هذه الأدوار الرخيصة قائلا: "هذا ما يحبه الناس ويريدونه"!
عزيزي، يامن ترى في نفسك تذوقا للجمال ورغبة في إسعاد الناس بهـذا الـفـن، فَكِّـر جيدا، فأنت الذي تؤثر في مسامع وأذواق الناس، أنت الذي تُوَلِّدُ في نفوسهم رغبة للعالم الجميل..
لا أنسى أبدا أستاذنا "محمد عبد الوهاب" حينما كــان يقول عن أغنية من ألـحــانــه الخـالدة ،"ولقد أبصرت أمامي طريقا فمشيت"؛ فقد كان الشاعر الكبير "إيليا أبو ماضي" مؤلف هذه القصيدة يقول: "ولقد أبصرت قُدَّامي طريقا فمشيت".. فلم تعجبه (قدامي) وأحسَّ أنها لا تتماشى مع فصاحة القصيدة، ومع ذائقة الناس، فهى إحدى كلمات الشارع البسيطة جدا.
ماذا حدث لنجد هذه النماذج البذيئة على شاشات التلفاز يفتخرون بما يقدمون من كلام يقولون عنه إنه "كلام شوارع" .. وأرى أنَّ هذا الولد قد صدق في هذا الوصف؛ فكلامهم هذا لا يزيد على أنه كلام شوارع.. لكنَّ المصيبة الكبرى أنَّه يظن هذا فخرا.. خبروني أعزائي القراء هل أصبح كلام الشوارع الذي لا يرقى للفن مثار إعجاب وفخر بين الناس؟!
إنَّ العيب لا يقع على هؤلاء الشباب وحدهم؛ فهؤلاء الشباب هم ضحايا مجتمع فاسد الذوق، ولو أنَّ هذا المجتمع قد رفض هذه النوعـيـات منذ الـبـداية ما استطاع أحد أن يقول عن نفسه كلمة فنان وهو لا يستحقها.. فهؤلاء لا يعلمون جيدا كيف كان عباقرة الزمن الفني الجميل يعانون كي يصنعوا الفن الذي يرتقي بحقٍّ بقلوب الناس، ويسمو بأرواحهم بل ويصوب أخطاءهم أحيانا.
إن الفنَّ الحقيقي ليس مجرد كلمة يتلهف الناس على إطلاقها على أيٍّ من الأشخاص لمجرد أنَّه حقق شهرة مهما كانت، لكن الفن الحقيقي هو حالـة من الانسجام في عالم ينأى بأرواحنا عما نراه من واقع أليم، وقبيح أحيانا.. هو حالة ترسم لنا رؤيـة جديدة للعالم الذي نتمنى أن نحيا فيه مستقبلا.. لا أقول إنه انفصال تام عن الواقع، ولكنـه إذا أظهـر الواقع كان خير ناقد لأحداثه، وخيـر مُصَوِّبٍ لآثامه، وحينما نلمس شيئا يـخـطـف نـفـوسـنـا ومشاعرنا ويرتقـي بأذواقنا ويمس أرواحنا نقـول حينها إن هذا هو الفن الحقيقي.. أما ما يمس الأجساد وحسب، وما يشـوب نـقـاء الروح التي خـلـقـهـا الله سامية فليس هذا إلا مجرد نوع من كلام الشوارع الذي لا تـحـب الأذن أنْ تسـمـعه، ولا تريد الأعين السوية أنْ تراه ولا حتى بالمصادفة.
** أحبُّ الاستماع إلى آرائكم قرائي الأعزاء على البريد الإلكتروني الخاص بي وعلى صفحتي على الفيس بوك بنفس العنوان :
a_ha3im@yahoo.com