قبل ان تدخل البصرة عهد الشيخوخة ، كنت في اقصى شمالها اسكن . حتى المنطقة التي كنت أسكنها لم تكن متخلفة كما هي الآن ، بل كانت هادئة جميلة تصلح ان تكون منتجعا صحيا او سكنا لشاعر او فنان، ولأنها كانت كذلك ، رفدت البلاد بفنانين ونحاتين وموسيقيين وممثلين وشعراء كبار لكن احدا منهم لم يسكن فيها، كبرادات الحديد جذبتهم العاصمة بسحرها وانفتاحها وطيبة أهلها ووفرة فرص العيش ووجوه اهلها المرحبة رغم تنوع اجناس ساكنيها . على حدود منطقتي، موضع الحديث ، سكنت معظم قيادات الاحتلال الذين نزعوا بدلات القتال واحتلوا كل مفاصل الدولة المدنية الرئيسة كالسكك والموانئ والمطار الدولي ودوائر الصحة. فقط التعليم وحده نجا من مخالب هذا الاخطبوط الشره الغريب . ولأن الغزاة لا يستطيعون التأقلم مع جو شرقي تحيطه من كل الجهات عشائر مازالت تحتفظ بتقاليدها رغم تعاقب القرون ، فقد حول هؤلاء المتمرسون في حكم كثير من البلاد ،ما اقتطعوه من منطقتي الى نسخة مصغرة من مدنهم التي جاءوا منها. نواد للعب القمار والبليارد .ساحات لكل انواع الكرة . أحواض سباحة فخمة للنساء والرجال ودور سينما مغلقة ومفتوحة .شوارع حديثة مشجرة تعبق منها روائح الزهور . بيوت تشبه الفلل ذات حدائق غناء تجلس فيها نساؤهم شبه عاريات يستحممن بشعاع الشمس في الطريق الى مدارسنا نتلصص عليهن نحن المراهقين من طلاب المدارس ,تحيينا بعضهن برفع اذرع بضة بعضها بلون الخوخ الناضج فنرد التحيات جذلين مأخوذين بمنظر الأفخاذ المحمصة العارية . مفرطو الحساسية منا كانوا يلتجئون الى أقرب شجرة .يستترون بضع دقائق ويحضرون متأخرين بعد بدء الدوام حيث ينالون توبيخا وعلقة من مدراء المدارس القساة !
لكني حينما نضجت صرت اضجر من طرف المدينة هذا حتى صرت لا أحضر مجالس العزاء الكثيرة في شهر محرم التي كثيرا ما تغص بأعداد الهنود والبلوش الذين جاءوا مع المحتلين والذين تستهويهم اكواخ الفقراء وطنين الذباب .لم أعد ألطم أو اسمع مقتل ابي مخنف فقد حفظته عن ظهر قلب أكثر من دروسي فكان يؤنبني أبي . كنت اهرب من منطقتي ،احببت وسط المدينة حد العشق. .
في وسط المدينة كانت الثانوية المركزية اكبر واقدم صرح علمي حديث كما تقول اللافتة التي توجتها :تأسست في 1925 .في وسط المدينة كان كل اصدقائي الذين جمعتني بهم سنون الدراسة في المركزية .لم يكن وسط المدينة هادئا بل صاخبا طوال اليوم لكن وسطها يتحرك كبطن حوت يضج بالصياح . المتبضعون والباعة. مراقبو البلدية ،عابرو تقاطعات الطرق وشرطة المرور. اصحاب عجلات الدفع اليدوية. المتسولون وباعة بطاقات اليانصيب .منبهات السيارات التي تحاول ان تفتح لها ممرا في زحمة السوق . اصحاب البسطات والمروجون لأفلام السينما. حملة صور راقصات الملاهي والفرق الاسبانية وآخر سيرك أجنبي ، كلهم يصيحون . صياح من كل جانب يختلط باصوا ت سائقي سيارات الاجرة الحديثة وباصات الخشب ودقات ساعة سورين الأثرية التي تنتصب على نهر العشار تواجه سوق الهنود حيث تزكم انفك رائحة انواع البهارات وتجبرك على العطاس .رائحة الشواء من مطعم حبش على يمين الساعة تسيل هي الأخرى لعابك .هذه المدينة الصاخبة ما ان يرتفع آذان المغرب حتى تخفت فيها الأصوات بالتدريج. في التاسعة تخمد وتبدأ حياة أخرى لا تمت للأولى بشيء .حياة يقودها شارع الوطني .!
عصرا بعد ان ينزع عمال الرصيف وموظفو الدوائر بدلات العمل يجلبهم شارع الوطن مقياس نبض المدينة .حيث دور السينما والمقاهي والملاهي التي تبهر اضواؤها المعكوسة على صور الراقصات شبه العاريات من مصر والفلبين واسبانيا. آخر الأبواب التي تغلق في المدينة هي ابواب الجوامع والملاهي .للأولى يهرع بؤساء المدينة .المتسولون والمشردون .اما الملاهي فتخرج منها اسراب الحسان الراقصات شبه عاريات .وجوههن ملطخة بالمساحيق .شعورهن الذهبية لهم سارحة على الاكتاف البضة العارية . اضواء الشارع تزيد من عريي الافخاذ الممتلئة التي تزيد من فعل الخمرة في رؤوس من تلفظهم الملاهي. امر يزيد من يقظة الشرطة وتحفزها لأي طارئ .دقائق لا أكثر تغوص الاجسام البضة في بطون سيارات الاجرة التي دائما ما تكون في الانتظار وتعرف عنوان فندق كل راقصة. بعد منتصف الليل تكون آخر سينما قد أغلقت ابوابها وآخر باص لمصلحة نقل الركاب قد اوشك على الانطلاق .وحده { كنو الضاحك دوما} بباصه الخشبي ووجه الناصع السواد يبقى في الكراج يلتقط السكارى الذين خذلتهم ارجلهم فيأتون مترنحين. لكنو شهرة ممثل وشعبية رئيس .بعد ان يغلق آخر بار بابه يقتني كنو قنينة عرق يدسها في جيبه . يقف قليلا بباب البار حاملا كأسا مليئا باللبن الرائب ويروح يدهن به وجهه الغارق في السمرة قائلا : اللهم لن أتعبك غدا فها أنا ابيّض وجهي بيدي فقط امنح عبدك الفقير حورية على ذوقك !
ما ان يغلق ابواب الباص الخشبية الاربع ويبتعد عن مركز المدينة حتى يوقف الباص قبالة النهر ويطلب ان يهتف الجميع بحياته والا يضغط على دواسة البنزين وفعلا يغير اتجاه مقود الباص فيثير منظر النهر وهدوء الليل رعب السكارى .
كثيرا ما يختار اشخاصا بعينهم يذكرهم بعبارات استهزاء به كان قد خزنها في ذاكرته .. ولأن باص كنو طوق نجاتي للوصول الى طرف المدينة، كنت احرص على اللحاق به قبل انطلاقه .من بعيد القيت نظرة على منارتي جامع مقام الامام علي على الطرف الآخر قبالة أسد بابل . اتخذت طريقا فرعيا قادني الى طريق عبد الله بن علي .كان الطريق شبه مظلم حينما وجدت صديقي شاكرا ممسكا بتلابيب وكيل الأمن فاضل سكرانا بباب وكيلة أمن عاهرة . جاءني صوت العاهرة من خلف الباب تستنجد بي. سحبت صديقي شاكر. كان مترنحا يسب وكيل الأمن والعاهرة والحكومة ولحظة حضوري .كنت افكر في كنو ولم انتبه لشاكر وهو يطلب ان نقف قبالة شباك مغلق في شرفة كانت تموء فيه قطة . حياها شاكر بمودة ربما صدفة ردت القطة عليه بمواء خاص لا استطيع ان اجزم.
ـــ حسنا أعرف انها نائمة الآن { بد الذات }، لكن قولي لروزا انني جئت وهذا شاهدي .قال مخاطبا القطة وهو يضرب على كتفي قائلا: اشهد يا صاحبي اشهد .وقبل ان اغترض او اتبرم بادرني قائلا: ولا يهمك سأدفع اجرة التاكسي فقد فاتك باص كنو يا صاحبي .